كلمة أخيرة في ملف مفتوح
فيما يخص الرأي العام في (إسرائيل) ، و بعيداً عن المؤسسة الأمنية و القيادة السياسية في (إسرائيل) منذ نشوء الدولة العبرية حتى الآن ، فإن نقاشاً حول جدوى (سياسة الاغتيالات) يثار بين الوقت و الآخر ، و هناك أصوات قليلة و نادرة في المجتمع الصهيوني تخرج عن مألوف السياسة الرسمية ، و تقوم بتحليل تلك السياسة ، و نموذجاً على ذلك ما كتبه مثلاً (المستشرق) غي باخور في يديعوت أحرنوت ، الصحيفة الكبرى في (إسرائيل) بتاريخ 27/11/2000 بعد أن أعادت للأذهان عمليات التصفية ضد نشطاء في انتفاضة الأقصى سياسة (إسرائيل) في الاغتيالات .
يعتقد باخور أن (سياسة الاغتيالات) هي سلاح ذو حدين ، مذكراً بأنه بعد اغتيال الشيخ عباس موسوي زعيم حزب الله الأسبق الذي صفّته (إسرائيل) بقصفة من الجو ، وقعت حوادث انفجارات في السفارة (الإسرائيلية) و مبنى الجالية اليهودية في الأرجنتين في شباط 1992 ، و كذلك وقوع عمليات استشهادية بعد تصفية يحيى عياش .
يقول باخور (إن مثل هذه التصفيات تخلق فراغاً قيادياً سيشغل بالطبع بإنسان جديد يدخل إلى المنصب الذي حدّده سلفاً ، و يلزمه بأن يكون أكثر "عدائية" لـ (إسرائيل) ، و تصبح الحسابات الوطنية "شخصية" و يتحوّل إلى أمر ملزم ، هكذا مثلاً استبدل عباس موسوي بأمين عام معادٍ أكثر منه : حسن نصر الله) .
و يقول باخور إن نظر (إسرائيل) للشخص المستهدف بسبب قيامه (بأعمال إرهابية) ، هو نظر من زاوية الأمن (الإسرائيلية) و التي تشكّل في كثير من الأحيان ، كما يرى ، تعريفاً واسعاً جداً .
و يعطي مثلاً على وجهة نظره (السياسية) مستنتجاً (أن تحويل الشيخ موسوي لحزب الله من منظمة "إرهابية" إلى حركة اجتماعية لبنانية ظاهرة توقفت عند نقطة معينة و غيرت الاتجاه بعد تصفيته ، و بهذه التصفية تم الحيلولة دون التطور الطبيعي للزعيم ، و الذي كان يعتبر كـ "إرهابي" في نقطة زمنية معينة ، سيعتبر غير ذلك من نقطة زمنية أخرى) . و بالطيع هناك قصور لدى باخور في فهم ظاهرة حزب الله ، و لكن ما يعنينا هنا أن القادة الصهاينة عندما ينفّذون (سياسية الاغتيالات) فهم في الواقع لا يمارسون (عملاً سياسياً) يخدم أهدافاً معينة ، و لكنه إرهاب منظّم تقوم به دولة هدفه القتل من أجل القتل ، في أحيان كثيرة .
و يعطي باخور مثلاً آخر على وجهة نظره قائلاً إن (اغتيال خليل الوزير على خلفية الانتفاضة الأولى كان خطأ فاحشاً ، لأنه كان من المؤيدين البارزين لعملية المصالحة مع "إسرائيل" و لو كان حياً اليوم ، لكان من الممكن للوضع الأمني أن يكون مختلف تماماً) .
و يشير باخور أيضاً إلى أن (المحاولة الصبيانية لتسميم زعيم حماس خالد مشعل أدّت إلى الإفراج عن الشيخ ياسين) . و يعتقد باخور أن (سياسة الاغتيالات تنبع من المفهوم السطحي الدارج في المؤسسة الأمنية "الإسرائيلية" و التي بموجبها أن الرأس هو المقرّر الوحيد و إذا تم قطعه فإن المشكلة ستنتهي معه ، كما لو أن اغتيال خالد مشعل سينهي حماس) . و يختتم باخور مقاله بالتأكيد ، محقاً ، أن اغتيال زعيم الطرف الآخر ليس فقط لا يحلّ المشاكل ، بل يفاقمها ، و يقول : (لم تقدّم سياسة الاغتيالات أية فائدة لأمن (إسرائيل) بل أسفرت عن أضرار بالغة ، و (إسرائيل) ، كدولة قانون تفعل خيراً إذا قضت على سياسة الاغتيالات) .
و بغض النظر إذا كانت (إسرائيل) دولة قانون ، حتى لو كان قانون الغاب أم لا ، و بغض النظر عن مفهوم الأمن "الإسرائيلي" ، و التباين بين (الإسرائيليين) في كيفية حمايته ، فإن (سياسة الاغتيالات) التي تمارسها (إسرائيل) كإعدام ، خارج نطاق ، أي قانون ، حتى لو كان قانون الغاب ، هي عملية (إرهاب) منظّم ، لعلّ الصفحات السابقة في هذا الكتاب ، و التي اعتمدت فيه على مصادر (إسرائيلية) كثيرة و كنت حريصاً على تثبيت الروايات (الإسرائيلية) الرسمية ، ترجّح ما ذهبت إليه . و إذا كانت (إسرائيل) انتظرت (38) عاماً لتعلن مسئوليتها عن اغتيال مصطفى حافظ و (21) عاماً لتفخر بانطلاق حملة اغتيال القادة الفلسطينيين ، و (9) سنوات للاعتراف الضمني بالمسؤولية عن اغتيال أبو جهاد و ذلك بتسريب التفاصيل للصحافة (الإسرائيلية) ، فإنها لم تعترف بفشل سياسة الاغتيال في إجهاض حركة الشعب الفلسطيني من استمرار النضال لتحقيق حقوقه .
و أيضاً لم تعترف باغتيال عددٍ من القادة و الكوادر الفلسطينيين أمثال :
·علي ياسين : مدير مكتب منظمة التحرير في الكويت (الكويت 1978) .
·سعيد حمامي : مدير مكتب منظمة التحرير في لندن (1980) . ·عبد الوهاب الكيالي : من قادة جبهة التحرير العربية :
(بيروت 1981) .
·ماجد أبو شرار : عضو اللجنة المركزية لحركة فتح : (روما :1981) .
·سعد صايل : القائد العسكري للمنظمة : بيروت (28/9/1982) .
·عصام السرطاوي : الذي فتح خطوط اتصال مع صهاينة (1983) .
·حنا مقبل : و هو صحافي بارز (1983) ..
·فهد القواسمة : عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير :
(عمان 1984) .
·أسعد الصفطاوي : من قادة فتح : (غزة 1993) .
·محمد أبو شعبان : من قادة فتح : (غزة 1993) .
و هذا كان سبباً بالإضافة لأسباب أخرى للظن بأن اغتيال بعض هؤلاء و غيرهم كان ضمن تعقيدات العلاقات بين الفصائل الفلسطينية و بعض أجهزة المخابرات العربية ، خصوصاً و أن جهات فلسطينية تبنّت قتل بعض هؤلاء مثل عصام السرطاوي و سعيد حمامي بينما تم اتهام جهات فلسطينية و عربية بالتخلص من آخرين مثل (سعد صايل ، فهد القواسمي ، أسعد الصفطاوي و محمد أبو شعبان) ، و الملاحظ أنه في مثل هذا النوع من الاغتيال لم يطالب الرأي العام الفلسطيني و العربي بحقّه بالاطلاع على التفاصيل و معرفة ما جاء في التحقيقات إذا أجريت ، و لم يتم محاسبة حتى الذين تفاخروا بتنفيذ تلك العمليات من زعماء لفصائل فلسطينية .
و لم تقم الجهات الفلسطينية الرسمية حتى عندما أتيح لها ذلك بالتحقيق و الإعلان عن نتائج ذلك ، مثل ما يتعلّق بمقتل أسعد الصفطاوي و محمد أبو شعبان ، و هما من قادة فتح ، قبيل دخول السلطة الفلسطينية لقطاع غزة ، و اعتبر اغتيالهما كنوعٍ من تصفيات حسابات داخلية في الحركة ، و عندما استلمت السلطة الفلسطينية مقاليد الأمور في غزة لم تفِ بوعدها بالتحقيق بمقتل اثنين من أبرز قادتها في غزة في ذلك الحين . و بدون البحث و الكشف عن طبيعة هذه الاغتيالات في مسيرة العمل الفلسطيني و العربي سيبقى موضوع الاغتيالات ناقصاً و أسراره و دوافعه مخبأة ، و لكن تلك قصة أخرى … طويلة .. و مريرة .. و تحمل مفاجآت كثيرة .. !